في مصر... تدقيق الحقائق وسط رأي عام مستقطب
كتب: صحيح مصر
في صيف 1967، التفّ المصريّون حول جهاز الراديو، ينصتون إلى المذيع أحمد سعيد عبر إذاعة صوت العرب، وهو يقول بصوته الجهوري: “الجيش المصري استطاع دحر الجيش الإسرائيلي ويلقنه الآن درسًا لن ينساه”، وفي إرسال آخر يذيع بيانًا أن الجيش المصري أسقط 81 طائرة للعدو.
سرعان ما اكتشف الشعب العربي والمصري أن ما أذاعه أحمد سعيد وزملاؤه عبر الأثير معلومات وأخبار مضلّلة. وقتها الهزيمة كشفت كل شيء. هذه الواقعة ما زالت عالقة في أذهان المصريين، وبعد مرور أكثر من 54 عامًا، لا يختلف ما حدث عند الهزيمة عن واقعنا الحالي، إذ تنتشر الكثير من الأكاذيب عبر السياسيين وصناع القرار والإعلاميين والشخصيات العامة، على الشاشات وفي المواقع الإلكترونيّة والصحف اليومية، في ظل غياب أيّ رقابة أو محاسبة.
كشفت دراسة أجراها فريق من جامعتين واحدة في ألمانيا وأخرى في إنجلترا، “أن في الانتخابات المرشحين الأكثر صدقًا ربما تكون فرصتهم أقل في الفوز بالاقتراع”، وقال مايك شنايدر الباحث الرئيس في الدراسة “إن المرشحين الذين يكذبون أكثر قد يتمتعون باحتمالات أكبر للفوز في الانتخابات مقارنةً بمنافسيهم”.
إذاً فإن “الكذب” عملة رائجة بين الساسة والقادة، ومنذ عام 2013 وتحديدًا بعد مظاهرات 30 حزيران/يونيو، ورحيل الرئيس الأسبق محمد مرسي، يعيش الرأي العام وسط استقطاب كبير بين الموالين لجماعة الإخوان المسلمين والمؤيدين للرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، وبين هذا وذاك الكثير من الأكاذيب والادعاءات المضلّلة.
ومن ذلك، قضيّة بناء إثيوبيا لسد النهضة، إذ تشغل حيّزًا كبيرًا في أذهان المصريين، خاصة مع المخاوف من تأثيره على حجم المياه الواصلة إلى مصر والسودان، ويحاول الإعلاميّون الموالون للرئيس عبد الفتاح السيسي، نفي أيّ مسؤوليّة له عن تلك القضية ومآلاتها، حتى إن الإعلامي أحمد موسى قال في برنامجه المذاع على فضائيّة صدى البلد “إن إثيوبيا أنهت 60% من إنشاءات سد النهضة قبل وصول السيسي إلى الحكم”، في المقابل وفي وقت متزامن، قال الإعلامي محمد ناصر، الموالي لجماعة الإخوان المسلمين على فضائيّة مكملين “إن بناء سد النهضة بدأ بعد تولي السيسي لحكم مصر، وليس قبله”.
عملنا على مدار أسبوعين في “صحيح مصر” للتأكد من صحة تلك الادعاءات باستخدام تقنيّة تحديد المتغيرات على الموقع الجغرافي لسد النهضة والمصادر المفتوحة للمعلومات في إثيوبيا، بالتوازي مع رصد للأحداث في مصر في الفترة من 2010 حتى 2021، لنكشف أن الادعائين كليهما خطأ ومضلّل، ورغم نشر تلك المعلومات المضللّة لم يخضع أيٌّ من الإعلاميين إلى أيّ محاسبة أو تحقيق، سواء في القنوات العاملين فيها، أو من جانب الجهات الحكوميّة المعنيّة بضبط وسائل الإعلام.
في الوقت نفسه، توقف الهيئة الوطنية للإعلام -هيئة حكوميّة معنيّة بالرقابة وتنظيم الصحافة والإعلام- مذيعة في التلفزيون المصري لظهورها سهوًا وهي تضع أحمر شفاه قبل بداية تقديم النشرة، بينما لم توقف أو تحقق مع أيّ مؤسسة صحفيّة أو إعلاميّة نشرت أخبارًا كاذبة، ولم تحاسب أي مذيع أو مقدم برامج على نشره ادعاءات مضللّة.
عززت جائحة فيروس كورونا من انتشار التصريحات والأخبار المضلّلة، وظهر على شاشات التلفزيون الكثير من غير المتخصصين يدلون بتصريحات عن وصفات وعلاجات خاطئة للفيروس أو للوقاية منه، حتى إننا في “صحيح مصر” دققنا أكثر من 150 تصريحًا مضللاً وخبرًا غير دقيق، مثل الكاتبة فاطمة ناعوت، التي ادعت أن شرب الماء الساخن يقي من الإصابة بـ”كوفيد 19″، فيما ظهرت طبيبة على التلفزيون تنفي وجود فيروس كورونا من الأساس، وتقول إن الأعراض التي تظهر على المصابين نتاج شبكات الجيل الخامس.
امتد الأمر إلى أعلى سلطة طبيّة في مصر، وهي وزيرة الصحة هالة زايد، إذ رصدنا لها منذ بداية الأزمة 17 تصريحًا مضللًا، كان آخرها تصريح عن منع إعطاء الحوامل لقاح كورونا بموجب إرشادات المنظمات العالميّة، إذ وجد مدققونا بالبحث داخل المصادر المفتوحة للمؤسسات الطبيّة ومنها منظمة الصحة العالميّة أنها عدلت من إرشاداتها منذ حزيران/يونيو 2021، ودعمت إعطاء الحوامل اللقاح، خاصةً أنهن من الفئات الأكثر تضررًا بالفيروس في حالة الإصابة.
التصريحات المضلّلة في مصر لم تتوقف عند وزيرة الصحة ووصلت إلى رأس السلطة نفسها، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي دققنا له في “صحيح مصر” على مدار عامين 11 تصريحًا غير دقيق ومضلّل، منها أن الرئيس تحدث في أكثر من مناسبة رسميّة أن “عدد اللاجئين في مصر 5 مليون شخص“، رغم عدم وجود إحصائيّات رسميّة تقول ذلك أو تنفيه، في حين أنّ أرقام منظمة شؤون اللاجئين أقل من ذلك الرقم بكثير -وهي غير دقيقة أيضًا لعدم تقدم كافة اللاجئين بأوراقهم إليها- لذلك اعتمدنا على بيانات رسميّة لوزارة الخارجيّة في تبيان الحقيقة، وأظهرت أن الرئيس يخلط بين مصطلح “اللاجئ” و”الأجنبي” المستقر في مصر بدون أيّ تهديد في بلده.
وفي مواجهة ذلك، نقف عاجزين أمام الوصول إلى معلومات دقيقة، بسبب عدم سن أيّة قوانين تتيح حرية تداول المعلومات في مصر، ورغم ادعاءات السلطات المصريّة أنها تحارب الشائعات والأكاذيب، وتخصص فرقًا معنية بتدقيق المعلومات تتبع الحكومة المصريّة، إلا أنها تتحوّل من دحض الأكاذيب إلى نشر تكذيب كاذب ومضلّل لأخبار حقيقية ودقيقة.
ومن ذلك، حينما نشرت الصفحة الرسميّة لوزارة الآثار على فيسبوك، بيانًا لتكذب أخبارًا انتشرت على فيسبوك عن “السماح لزوّار المتحف المصري بالتصوير مع قناع توت عنخ أمون خارج صندوقه الزجاجي، في مقابل رسوم ماليّة”، ولكن على النقيض من ذلك عثر مدققونا داخل الموقع الرسمي للوزارة على مستند موثق صادر عن الوزارة يحدد قيمة رسوم التصوير مع التمثال التاريخي خارج صندوقه الزجاجيّ عكس ما نفته الوزارة في بياناتها.
يحاول العالم محاربة الأخبار المضلّلة المنتشرة على شبكات التواصل الاجتماعي، ونعتقد ونؤمن أن علينا في عالمنا العربي محاربة الأخبار الكاذبة ومروجيها من السياسيين والشخصيّات المسؤولة والعامة وصناع القرار.
ومع وجود قدر كبير من التضليل الذي ينتشر يوميًا عبر التلفزيون وفي وسائل الإعلام الرئيسة، يكون هنا دور مدققي المعلومات في العالم العربي أخطر وأهم، لأنه يتمحوّر حول تصحيح أكاذيب شخصيات ذات نفوذ وسلطة، وسط صعوبات في الحصول على معلومات دقيقة.