في زمن اضطراب العالم... أريج تطلِق الشبكة العربية لمدققي المعلومات
روان الضامن
المديرة العامة لـ “أريج”
نعمل في أريج ضمن مصفوفة تدريب محترفة لإنجاز تحقيقات رائدة ومؤثرة في محيطنا العربي. وفي ظل التدفق الواسع الذي يشهده العالم على صعيد تدفق المعلومات، نعتمد في أريج بعد الاكتمال الاحترافي لكل تحقيق على فريق من مدققي الحقائق الذي يقوم بعملية شاقة وطويلة لضبط المعلومات وتأصيلها، إنها مرحلة “تدقيق الحقائق” في مرحلة ما قبل النشر وظهور التحقيق إلى النور ليكون متاحاً للجميع. ومن هذا الرحم انطلقت “الشبكة العربية لمدققي المعلومات” (Arab Fact Checkers Network: AFCN). الشبكة التي تحتاج إلى كل واحد منكم/ن ليكون على مستوى التحدي المتمثل في “اضطراب المعلومات” الذي نعيش فيه.
كصحفيّة عربيّة، أعمل في مضمار العمل الصحفي الميداني منذ عشرين عاما، كنت محظوظة أن أنجزت أكثر من ثلاثين ساعة من الأفلام الوثائقية التي تستند جميعها إلى أرشيف وشهادات، حقائق ووثائق مدققة، فضلاً عن إشرافي على إنتاج وبث مئات الساعات المرئية والمقروءة التي تحققت من كل معلومة فيها. لذا أعرف جيدا أهمية تدقيق الحقائق ما قبل النشر. ولسوء الحظ، فإن هذا التكنيك القائم على تدقيق الحقائق قبل مرحلة النشر نادر في النظام الإعلامي بالعالم العربي، حيث تحصل وسائل الإعلام التي ترعاها الدولة على محتواها من الحكومات ولا يمكنها في كثير من الحالات تغيير الصياغة أو مناقشة المعلومات، لذلك فهي لا تهتم بتدقيق الحقائق أو انتقادها. أما وسائل الإعلام الخاصة، المملوكة من رجال أعمال مقربين من الأنظمة الحاكمة، فتتجه إلى الترفيه بدلاً من المحتوى الواقعي، وتفتقر وسائل الإعلام المستقلة إلى الموارد والمنهجية لإعطاء الأولويّة لتدقيق الحقائق ما قبل النشر.
وبما أن تدقيق الحقائق أساس الصحافة الموثوقة، وأساس الصحافة الاستقصائية، فقد كان لزاما على “أريج” أن تحتضن “الشبكة العربية لمدققي المعلومات”. ومع تدفق الأخبار المزيّفة وأنصاف الحقائق في منطقتنا والعالم، أصبح من الضروري إجراء تدقيق للحقائق قبل النشر وبعده. وفي سبيل هذا واكبنا نشوء عدد من وحدات تدقيق الحقائق المستقلة في بعض البلدان العربيّة في السنوات القليلة الماضية، بهدف المساهمة بإيجاد وترسيخ إعلام شفاف، خاضع للمساءلة ويتحلى بالمصداقية والموثوقية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ربيع عام 2020، شهد العالم بداية انتشار وباء كوفيد-19، وفي ظل هذه الظروف انتهزت العديد من الحكومات العربيّة الجائحة كفرصة ذهبيّة لإدخال قوانين أكثر صرامة فيما يتعلق بحرية التعبير والتجمع، واحتكرت المعلومات الطبية والمجتمعية التي تؤثر مباشرة على حياة المواطنين، ما أدى لانتشار الأخبار المزيّفة والمعلومات الخاطئة والمضللة عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف وحتى المنصات الإعلاميّة. ووصل ذلك إلى خطاب كراهية وعنصرية أحياناً. ما أعادنا إلى المربع الأول في مناقشات فعالة حول متى، كيف ولماذا ومن يجب عليه الإشراف على الخطاب عبر الانترنت؟
السؤال المهم هو كيف نتحرك لتغيير ذلك؟
أطلقت أريج نهاية العام الماضي دراسة على المستوى العربي، بالتعاون مع مؤسسة “فريدريش ناومان” – مكتب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حول مكافحة المعلومات المضللة في العالم العربي، حيث تمّ نشر ورقة السياسات باللغتين الإنجليزية والعربية. وأثناء العمل على الدراسة، التقى فريق شبكة أريج بمدققي الحقائق المستقلين والعاملين في وحدات متخصصة، وفي خضم هذه المناقشات ولدت الفكرة. هناك حاجة حقيقيّة لشبكة إقليميّة لتدقيق الحقائق، لذلك جاءت “الشبكة العربية لمدققي المعلومات” (AFCN) كنهج شبكي من القاعدة إلى القمة على مستوى المنطقة، لبناء القدرة على تدقيق الحقائق.
بناءً على ذلك، أجرينا دراسة، بدعم كل من شركائنا الاستراتيجيين SIDA وDANIDA و IMS وOSF، تضمنت تحليل محتوى نوعيّ للعديد من تحقيقات اللغة العربية في المنطقة، لتقييم عملهم في تدقيق الحقائق، وقد كانت النتائج مقلقة. كما أجرينا أيضاً دراسة كميّة أخرى لتحليل المحتوى الذي تنتجه عشرات وحدات تدقيق الحقائق. خلصت الدراستان النوعية والكمية إلى أن هناك حاجة حقيقيّة لإضفاء الطابع الاحترافي على عمل مدققي الحقائق العرب من خلال إيجاد منهجية وآليات واضحة تلتزم بأفضل الممارسات والمعايير الدوليّة، وبناء القدرات من خلال برامج تدريبية مكثفة وتنمية المهارات اللازمة لخلق جيل جديد من مدققي الحقائق الذين يقدّرون الحقيقة والتثبت من المعلومة وتأصيلها.
في ظل الظروف القانونية والاجتماعية والسياسية عالية الخطورة التي يواجهها الإعلام في الدول العربية، يتم تهميش فريق مدققي الحقائق المستقلين، حيث تفتقر وحدات التدقيق إلى الاستدامة، في زمن تغيب فيه الأدوات الداعمة للغة العربية. لهذا تهدف “الشبكة العربية لمدققي المعلومات” (AFCN) إلى أن تكون شاملة لمدققي الحقائق ما قبل النشر وبعده، وكذلك لكل من الوحدات والمدققين المستقلين.
لا يخفى على أحد أنه يتمّ استهداف الصحفيين عامة، والاستقصائيين خاصة، بسبب عملهم. كما يواجه الصحفيّون الاستقصائيّون مخاطر ماديّة ورقميّة وقانونيّة أكثر بكثير من أيّ وقت مضى. ولسوء الحظ، نتوقع أن يكون مدققو الحقائق الهدف التالي لكل الذين يعتاشون على خوف المواطنين من معرفة الحقائق، والذين يريدون أن تمر وعود السياسيين من دون أيّ تدقيق، وأن يمر التحليل الطبي والاقتصادي من دون أيّ تدقيق، والذين يريدون أن تتمتع الأوراق الأكاديمية بالحصانة لأنه من الصعب تدقيقها.
نثمن عمل كل مدقق حقائق من البرازيل إلى الصين الذي يعمل ليل نهار للإبحار وسط الموجات العالية لوباء المعلومات، بالكثير من الشجاعة والتفاني. وهنا لا بد من إعلاء الصوت والمطالبة بدعم “الشبكة العربية لمدققي المعلومات” من خلال التعاون والشراكات والحماية، وندعوكم لرفع الصوت عالياً وبوضوح. نحن منفتحون على التعاون معكم، في كل دولة في وطننا العربي، وإلى خارج منطقتنا، حيث معاً فقط يمكن نكون أقوى.
يمكن لكلّ منا أن يكون له رأيه الخاص، ولكن لا يمكن أن يكون لكل منا حقائقه الخاصة.